مجتمع

سيكولوجية الإنسان المقهور: جذور العنف في مجتمعات التخلف

حين يتحول القهر إلى بنية نفسية، والعنف إلى لغة يومية، لا يكون الخلاص إلا بفك القيود التي سكنتنا قبل أن تسكننا الهزائم.

future غلاف كتاب «التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» (المركز الثقافي العربي: 2005) للطبيب النفسي والمفكر اللبناني الراحل مصطفى حجازي

حين تقرأ عن مشادة وقعت لسبب تافه وانتهت بجريمة أودت بحياة إنسان، أو تشهد عراكًا بنفسك في الشارع وترى الغضب يتقافز من العيون المتنازعة لخلاف بسيط، أو تتابع سيلًا من الاتهامات والعبارات الجارحة والتقريع اللفظي ينال من أحدهم على وسائل التواصل الاجتماعي لقوله رأيًا غير شائع لا يحظى بقبول شعبي، فلا تتعجب. الإنسان المقهور في حالة تعبئة نفسية دائمة استعدادًا للصراع. في العالم المتخلف، يسود مناخ عام من العنف تتراكم فيه العدوانية داخل الناس جرّاء التسلط على مستويات عدّة في التعاملات اليومية، حيث تشيع لغة السوط القمعي بدلًا من الفهم والحوار، والإخضاع بدلًا من الإقناع. تتحين هذه الخشونة الانفجار في أي لحظة ضد من يمكن تفريغ هذه الشحنة فيه انتقامًا من كل ما يتعرض له الإنسان، وإن أخطأت هدفها الحقيقي فنالت من المرأة بدلًا من ربّ العمل، على سبيل المثال، رغم أن كليهما مقهور لأنهما أبناء البيئة نفسها.

بنظرة أشمل للموقف سترى هؤلاء العدوانيين في الأصل ضحايا عنفٍ مبطن، مزمن، ومنظّم، وقهرٍ مستتر يُمارس عليهم، فيما يستدعي النظام العام التعامل المهذب والرضوخ، فيظل الغضب مكبوتًا داخلهم ينتظر فرصة للخروج. وهكذا تنبت بذور التعصب التي لا تعرف سوى التدمير وسيلة إلى تحقيق الآمال. ليس العنف وحده هو شكل الانتقام، فهناك أشكال أخرى خفية مثل الكسل والتخريب والنكات الجارحة التي يضحك بها ضحكة المنتصر، وجميعها يعكس الازدواجية في العلاقة بين التابع والمتبوع، ويمثّل تأرجحًا بين التبعية والرضوخ الظاهري وبين الرفض والعدوانية المبطنة.

ربما أفضل ما كُتب عربيًا في المنظور النفسي للتخلف ونفسيّة الإنسان المُستغَل المقهور في عصور الانحطاط والفترات المظلمة حين تكون قوى التسلط الداخلي والخارجي في أوج سطوتها، وحالة الرضوخ في أشد درجاتها، كتاب «التخلف الإجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» (المركز الثقافي العربي: 2005) للطبيب النفسي والمفكر اللبناني الراحل مصطفى حجازي. في تلك الأوقات، يكون التركيز على غرس الاستكانة والمهانة في نفسية الجماهير على أنها طبيعتها الأزلية، لزراعة اليأس وقطع السبل أمام الانتفاضة والتمرد، فلا يبقى من سبيل للنجاة سوى الإيمان السلبي والمكوث في خانة الانتظار دون فعل، أو الرضوخ للسيد المتحكم في الكون، فتنشأ حالات التقرب والتزلف ويسود الزيف الناتج عن العجز عن المجابهة، أو إنهاء الحياة مع تزايد الميول الانتحارية.

أنماط بيئة التخلف: وهل التخلف يعني الفقر بالضرورة؟

يفنّد المفكر اللبناني هذا الاعتقاد إذ يقول: لا يجب الخلط بين التخلف وبين الثراء، فهناك بلدان غنية ما زالت متخلفة اجتماعيًا، والعبرة ليست بتأمين الحاجات الحيوية الضرورية للإنسان (غذاء وصحة وتعليم وسكن إلخ)، أو مستوى الإنجازات الاقتصادية والتقنية، وإنما التخلف هو ثمرة الاستغلال والاستعباد، وبيئته هي بيئة فقدان الكرامة الإنسانية بمختلف صورها، كما نجد بعض أصحاب البشرة السمراء يكرهون ذواتهم ويستميتون لتغييرها عبر عمليات التجميل، بعد أن تعمق فيهم الاعتقاد بأن اللون الأسود علامة تأخر، ليلتحقوا بعدها بالعرق الأبيض.

يقول عالم النفس السويسري أرنو غروين:

«هؤلاء الأشخاص ذوو الشخصيات التي تميل إلى الطاعة المطلقة يصبحون في فترات الأزمات السياسية والاقتصادية والركود أكثر قابلية للرضوخ للاستبداد، بل وأكثر استعدادًا لاستدعائه أيضًا. ففي هذه الأوقات يسيطر على الناس الخوف من فقدان أسباب الحياة، فيتخيلون أن السلطة بما لها من قوة ستحميهم وتوفّر لهم أسس الحياة، تمامًا كما كانوا يشعرون بضرورة طاعة سلطة الأهل عندما كانوا أطفالًا، لأنهم يوفّرون لهم أساس الحياة».

ويضيف غروين:

«يطيع هؤلاء الأشخاص السلطة آملين ألا تتعرض حياتهم للمخاطر والتهديد، وأن تُلبى احتياجاتهم الأساسية، ولا يدركون غالبًا، أو ليس بمقدورهم إدراك، أن السلطة كثيرًا ما تستغل هذا الشعور بالامتثال والطاعة لتمرير سياساتها القاسية دون أن تخشى ردّ فعل ثوريًا أو عنيفًا، فقد امتثل العديد من أفراد الشعب بالفعل وأطاعوا».

في بيئة التخلف، يسود نمط معيشي واجتماعي وفكري يقاوم أعضاؤه سبل تغييره لارتباط بنيتهم النفسية به، فأنماط الوجود التي تخلقها هذه البيئة تتميز بطابع التسلط والرضوخ، وتشكل مصدرًا هامًا لمقاومة التغيير والعقبة الأكبر في طريق التطوير، فهم يميلون للمألوف ويخافون بطش القوى المتسلطة إذا ما خالفوا النظام العام.

وبحسب كتاب «سيكولوجية الإنسان المقهور» الذي يدرس نفسية الإنسان في البيئة المتخلفة، فإنه يمر بأنماط أو مراحل ثلاثة هي: القهر، والرضوخ ثم الاضطهاد، قبل أن يصل إلى التمرد والمجابهة. في المرحلة الأولى، يتحول الإنسان إلى شيء، أداة أو وسيلة، قيمة ما مبخسة، سواء في علاقة بين الحاكم والمرؤوسين، ثم منهم إلى من أدنى منهم، وهكذا إلى غالبية السكان. يظهر هذا النمط الذي يغلب عليه طابع التملك بين الأقوى والأضعف كرئيس ومرؤوسين، وبين الرجل والمرأة كما في صور الحب وعلاقات الرحم والمصاهرة، وبين الكبار والصغار كالأم وأطفالها. في عالم القهر التسلطي تسود القلة ذات الحظوة، متحالفة مع قوى خارجية استعمارية صريحة أو مقنعة لتفرض هيمنتها على الغالبية.

من الجهة الأخرى، يُنمّي السيد المحتل أو الرأسمالي الأوروبي النظرة المتخلفة إلى الوجود عند الإنسان المقهور ليحافظ على امتيازاته، فهذا الإنسان لا يعيش الحياة لذاته بل يحيا لخدمة الآخرين. ومن أبرز مظاهر التبخيس والعدوانية التي يفرضهما المتسلط على المقهور هو الإعجاب به والاستسلام له، فيتحول إلى أسير للمظاهر، محاكيًا الجانب الاستهلاكي للتقدم دون الوصول إلى البعد الإنتاجي الابتكاري الذي يشكل القيمة المضافة الحقيقية. يلجأ الإنسان المقهور أيضًا إلى خداع الآخرين بجاه أو مال أو حظوة لا أساس لها في الواقع، وذلك لأن حتى الفئة ذات الحظوة تعاني من عقدتي النقص إزاء الأجنبي والمستعمر الذي يشكل نموذج الرقي بالنسبة لها.

وفي مرحلة الاضطهاد، يعيش الإنسان في حالة مرهقة من توقّع للخطر بما لا يسمح له بارتياح كافٍ. ويحمل الآخرين مسؤولية تقصيره الذاتي أو الفشل أو أي سوء وقع، ويعتبره نتيجة للحسد والمتربصين لتحطيمه. ثم في مرحلة التمرد والمجابهة، يكون العنف المسلح هو السبيل الوحيد للشعب المقهور للتعبير عن نفسه وحقه في الوجود.

الخلاص في المنقذ

نقرأ من الكتاب ص144:

«حينما يستفحل عجز الإنسان وقصوره، وحده الخلاص الخرافي يظل ممكنًا كأمل يُبقي له على رمق من الحياة».

يقول حجازي إن الإنسان المأزوم عندما تتضخم عنده آلام الحاضر وتنسد آفاق المستقبل، يهرب إلى أمجاد الماضي، ويغرق في ممارسات تنسيه واقعه الأليم كالذكر، والمخدرات، والزار، والخرافات، وهو ما ينعكس على إنتاجه الإبداعي من أفلام أو أغانٍ أو قصص شعبية. ينتظر المنقذ القوي الذي سيتعلق به، أو الزعيم المخلص الفرد الذي سينتشله مما هو فيه، في الوقت الذي تبدو له ظواهر الحياة والمجتمع أقوى من طاقته على الاستيعاب، فيعيش دنياه في فضاء من الفوضى والعشوائية والتخبط، مشتّتًا بين المحاولات شبه العمياء وموجات الحماسة التي سرعان ما تفتر، ليرتد إلى حياة تنعدم فيها المثابرة أو التخطيط طويل الأجل.

ولما كان الانغماس في الممارسات التي يواري بها الإنسان المقهور عجزه عن مقاومة القمع ودفع القهر مطلوبًا ويخدم الطرف المتسلط، فإننا نجد الحكام في المجتمعات المتخلفة ترعى المقامات وذوي الكرامات والطرق المتلبسة رداءً دينيًا التي بها يعمّ الجهل، وتتأصل الاستكانة، وتشيع الخرافة لصرف الناس عن التصدي الفعّال للتخلف بما يحفظ للطرف المتسلط مكانته.

في المجتمعات المتخلفة، يستمر إلباس الممارسات السحرية والمعتقدات الخرافية لباسًا دينيًا كي تبلغ مرتبة الإيمان الذي لا يتزعزع لدى المواطن المقهور، والعقيدة التي لا تُمس، والمقدس الذي لا جدال فيه. وبالخرافة يتعطل الفكر النقدي والتحليل الموضوعي للواقع كمقدمة ضرورية للوصول لحلول للمشكلات بعد تحديد أسبابها المادية، فتكون النتيجة استفحال التخلف.

يضرب الكتاب مثالًا بالولي كصورة لذلك المخلّص أو المنقذ، إذ تجسد الكرامات والخوارق أماني الجماهير المغلوبة على أمرها، وتُدغدغ آمالهم بأن يصبحوا يومًا ما مثله أصحاب كرامة، لو اصطفتهم العناية الإلهية كما اصطفته، دون عملٍ منه، فتُحل مشكلاتهم. تنتشر الوساطات كذلك بين الولي وبين صاحب الحاجة، الذي يقدّم النذور والقرابين نذير قضاء حاجته، وهي ممارسات ليست محتكرة على دين بعينه. ينتشر كذلك تفسير الأحلام، وقراءة الطالع، وعمل العرّافين.

هكذا تنتشر أضرحة الأولياء ومقاماتهم في كل أرجاء المجتمع المتخلف، اعتقادًا أنها جالبة للخير والبركة، ومن جاور ضريح الولي فهو في مأمن. هذا بخلاف أسطورة قضاء الحاجات، من شفاء أمراض أو كفّ الحسد، أو جمع الحبيبين، أو النصر على الغريم. ويتولى الأولياء في المخيلة الشعبية ما تعجز الجماهير عن تحقيقه بجهدها، أو ما قصّر الحاكم في تلبيته.

في النهاية

لا يمكن فهم العنف المنتشر في المجتمعات المتخلفة دون التعمّق في البنية النفسية التي ينتجها القهر المنظّم والمزمن. فالعنف هنا ليس طبعًا فرديًا، بل هو نتاج بيئة بأكملها تُعيد إنتاج التسلط والتبعية والخوف في حلقات لا تنتهي. ولا يكون الخلاص الحقيقي بمجرد إصلاح اقتصادي أو تنمية سطحية، بل يحتاج إلى تفكيك البنية الذهنية التي ترسّخ التبخيس الذاتي، وإعادة بناء كرامة الإنسان الفرد ليكون فاعلًا لا تابعًا، ناقدًا لا منقادًا، مقاومًا لا خاضعًا، فهناك يبدأ التحرر الحقيقي.

# كتب # قراءات كتب # صحة نفسية

الاكتئاب: مقدمة مختلفة جدًا
بحار قريبة وبحار بعيدة: التحليل الجغرافي للسيطرة على البحار والمحيطات
من أنا؟ عن الحرب المستعرة التي نحرق بها دواخلنا

مجتمع